فبالنظر للمعطيات الإحصائية والوقائع، شهدت قطر خلال هذه السنة، التي تشرف على تسليم المشعل لرديفتها المقبلة، تحركا للفاعلين السياسيين والاقتصاديين القطريين في اتجاهات أنشطة متعددة ولكنها متكاملة ويصب بعضها في تعزيز البعض الآخر، يمكن أجمالها في أربعة محاور رئيسية، بدا للمتتبعين، ان الدوحة تخوض من خلالها سباقا مع الزمن.

  ولعل اكثرها بروزا للعيان دينامية الإنجاز على مستوى إكمال البنيات التحتية المتصلة بموعد 2022، والتي جاء في تصريح صحفي أدلى به مستهل الشهر الجاري أحد أبرز المسؤولين في اللجنة العليا للمشاريع والإرث، بأنها ستكون، خصوصا الملاعب، "جاهزة بسنتين قبل الموعد".

   وتتضمن الثمانية ملاعب الرئيسية الموجهة لاستضافة المنافسات، الى جانب 40 ملعبا ستكون مخصصة للتداريب، فضلا عن بنيات الإيواء، والمشاريع المتصلة بالطرق والنقل.

  وتمثل هذه المعطيات جزءا من المشهد وليس كله؛ إذ أن جانبه الآخر يكشف عن جهود، يصفها المراقبون بأنها كانت "أكثر دينامية" في اتجاه تحصين القطاع المالي درءا لأية مخاطر محتملة، وأيضا لتأسيس مسار يوسع ويعمق علاقات الدوحة مع العواصم الأكثر تأثيرا إقليميا ودوليا.

  كما تكشف الأرقام الرسمية عن جهود متنامية لبلوغ مستويات من الاكتفاء الذاتي وتقليص الاعتماد، خاصة في مجال الغذاء والدواء، على ما يجود به الخارج من واردات، وكذا الرفع من قيمة مساهمة القطاعات غير النفطية في الاقتصاد، دون التفريط في مشاريع الرفع من انتاج الغاز، خاصة على مستوى حقل الشمال (الأكبر على مستوى العالم من حيث الاحتياطيات من هذا المورد).

  ويندرج ضمن هذا الجهد الوفاء بالتزامات المؤسسات القطرية المنتجة للنفط والغاز تجاه زبائنها، والاتجاه الى الاستقلال أكثر بالقرار الاقتصادي في ما يخص انتاج وتسويق وتسعير النفط، وهو الموقف الذي بدا، بحسب المتتبعين، جليا من خلال إعلان الدوحة انسحابها مؤخرا من منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) والذي سيدخل حيز التنفيذ في يناير المقبل.

  وإن كشف هذا الموقف عن رغبة في دخول السوق ب"توجهات محض وطنية" بعيدا عن أي انتماء قطاعي لتكتل منتجين دوليين قد تلزمهم مواقف موحدة، "لا تنسجم أحيانا"، بحسب المحللين، "مع المصالح الاقتصادية الوطنية"، فإنه أيضا يمثل جزءا من استراتيجية انتاج تبتغي التركيز على قطاع الغاز، بما يشمل التنقيب والاستكشاف والإنتاج والتسويق، والانتقال بهذا الإنتاج من مستوى 77 الى 110 ملايين طن بحلول 2025، في خطة لتكريس ريادة على مستوى العالم انتاجا وتسويقا لهذه المادة.

  وهو مشروع التوسعة الذي من المتوقع، بحسب تقرير لوكالة "بلومبيرغ" الأمريكية المتخصصة في الشأن الاقتصادي، استنادا الى مصادر وصفتها ب"الخاصة"، أن تحصد من خلاله قطر إيرادات إضافية بقيمة 40 مليار دولار.

  ولا يختلف أحد على أن الناتج الاقتصادي وتوقعات أدائه تمثل مؤشرات البوصلة التي على هديها يتم تخطيط وبرمجة كل المسارات الأخرى، لذا كان التركيز، وفقا للمسؤولين، على القطاع المالي، من جهة لحماية العملة المحلية "الريال" من أي هزات قد تربك السوق وتقلص من ثقة المتعاملين به، سواء كان مصدر هذه الهزات إقليميا أو عالميا، ومن جهة أخرى حماية المؤسسات المالية وعلى رأسها البنك المركزي، وسوق البورصة وحركة التعاملات.

  كان الرهان كبيرا، بالنظر لتحديات السياقين الإقليمي والدولي على المستويين الاقتصادي والسياسي، لكن النتائج أبدت، برأي الكثير من المتتبعين، أنه "لم يكن مستحيلا"، إذ أن حالة التراجع التي عرفتها البورصة القطرية بعد فترة من اندلاع الأزمة الخليجية وإبان استحكام انخفاض أسعار النفط في حركة السوق الدولية، انتقلت، مع مرور الوقت وبظهور نتائج "جيدة" لغالبية الشركات القطرية المدرجة، خاصة خلال الثلاثة أرباع الأولى من 2017، الى حالة متنامية لاسترجاع النقط الضائعة. 

  ولم يكن خافيا على المنخرطين في سوق المال والأعمال القطرية أن البورصة كانت تطمح، مستهل 2017، الى اختراق 11 ألف نقطة وكانت قريبة منها، مع مؤشرات متفائلة بأنها ستتجاوزها بالفعل، لكن اندلاع الأزمة الخليجية وتراجع أسعار النفط وتباطؤ الاقتصاد العالمي، خاصة لدى العملاق الأسيوي الصين، وماعزاه محللون الى "متغيرات جيو-سياسية"، أدخل المؤشر في وضع من التذبذب انتقل فيه من 10 آلاف و938.80 مرورا ب8 آلاف وبضع مئات نقط، ليصل بعدها في حركة تنام متواصلة الى 10,364.54 نقطة عند إغلاق آخر جلسة في نونبر 2018.

  وبرزت مؤشرات هذا المشهد واضحة في كلمة أمير قطر أمام دور الانعقاد العادي السابع والأربعين لمجلس الشورى خلال نونبر الماضي، حين أكد أن "الدولة اتبعت سياسة مالية متحفظة للتغلب على انخفاض أسعار الطاقة"، كان من نتائجها أن كان "النمو في قطر أقل تضررا"، خاصة في ظل ما صاحبه من "نمو في الناتج المحلي من المصادر الأخرى بحوالي 4 في المائة"، و"تراجع في الإنفاق الحكومي بنسبة 20 في المائة"، في مقابل "نمو في قيمة الصادرات بنسبة 18 في المائة"، و"نجاح" الدوائر المسيرة للقطاع المالي في تمكين العملة القطرية من "الحفاظ على قيمتها".

  وبموازاة ذلك، تحدثت الأرقام الرسمية عن ارتفاع فائض الميزان التجاري القطري، خلال أكتوبر المنصرم بنسبة 129.1 في المائة على أساس سنوي، وصولا إلى 19 مليار ريال (5.21 مليارات دولار)، وانخفاض قيمة الواردات السلعية بنسبة 22.9 في المئة، وصولا الى 9.8 مليار ريال مقارنة مع نظيره في 2017 (دولار أمريكي يساوي 3.6398 ريال) .

  وتوقع صندوق النقد الدولي، في تقرير عممه خلال نونبر المنصرم، نمو الناتج المحلي القطري بنحو 3.1 بالمائة في 2019، وبنحو 2.4 في المائة خلال السنة الجارية، مرجحا أن ينمو هذا الناتج على مدار الفترة من 2020 إلى 2023 بنحو 2.7 في المائة سنويا" بدعم من حركة الإنفاق على البنية التحتية والتوسع في انتاج الغاز الطبيعي المسال واستضافة كأس العالم 2022.

  واعتبر التقرير أن الاقتصاد القطري "يواصل أداءه القوي" مع نمو الناتج من القطاع غير الهيدروكربوني بنحو 6 في المائة خلال النصف الأول من 2018، متوقعا أن ترتفع احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي إلى 36 مليار دولار.

  وبحسب المسؤولين القطريين، يمثل حجم الاكتتاب في السندات السيادية القطرية التي طرحتها الدولة في السوق المالي الدولي بقيمة 12 مليار دولار والذي بلغ 53 مليار دولار وبأسعار فائدة معتدلة، مؤشرا قويا على ثقة المؤسسات المالية العالمية في مستقبل أداء الاقتصاد القطري.

  وكان حجر الزاوية وما يزال بالنسبة لصانعي القرار والفاعلين السياسيين والاقتصاديين القطريين، تجاوز التحديات الإقليمية والتكيف مع مستجداتها، ووضع البنيات الاقتصادية الأساسية لبلوغ مرحلة إنتاجية تحقق بعضا من الاكتفاء الذاتي، خاصة على مستوى الغذاء والدواء وبعض المواد المستعملة في مجال البناء، وهو الأمر الذي لم يشكل في سابق الأيام همّا ذا أولوية.

  وعلى مستوى الغذاء، أبانت أرقام رسمية عن توسع في الأنشطة الزراعية بدخول القطاع الخاص على خط المبادرة، وباعتماد أساليب حديثة لتحقيق إنتاجية تتغلب على قساوة الطبيعة وندرة المياه، وإحداث صناعات موازية، لتغطية الفراغ الناجم عن توقف صادرات دول جوارها القريب.

  ولتدبير قطاع الماء وتأمين مخزون استراتيجي، جاء اعتماد مشروع الخزانات العملاقة للمياه، والذي وصفه مسؤولو القطاع المحليين ب"القفزة النوعية في مجال تكنولوجيا تخزين المياه". وكان تم تدشين الانتهاء من إنجاز مرحلته الأولى، ويتوقع الانتهاء من تدشين باقي المراحل مع نهاية العام الجاري.

   ويشتمل المشروع، الذي تبلغ تكلفته 14.3 مليار ريال ويتضمن تمديد ما يقارب 650 كيلومترا من خطوط أنابيب المياه للربط بين الخزانات ومحطات التحلية، على 15 خزانا ضخما، تبلغ سعة كل واحد منها مئة مليون غالون، بمساحة ثلاثمئة مترا طولا و150 مترا عرضا وبارتفاع 12 مترا لكل خزان، وينتظر منها أن تؤمن، في المجمل، تخزين 2273 مليون غالون (10.3 ملايين متر مكعب)، ما سيحقق بالنتيجة "زيادة قدرها 155 في المائة من مخزون المياه العذبة الحالي"، ويمكن من رفع الطاقة الإنتاجية من الكهرباء بنحو 30 في المائة ومن المياه المحلاة بنحو 40 في المائة.

   وكان لابد من الانفتاح، بموازاة ذلك، على أسواق جديدة، وفتح منافذ بديلة جوية وبحرية، في وقت انعدم فيه أو تَغَيَّب الى حين، المنفذ البري الوحيد لها مع العالم الخارجي، ما جعل المعنيين بالقطاع يركزون على توقيع اتفاقيات الربط المباشر عبر الخطوط الجوية والبحرية بعدد من البلدان، وكذا الرفع من طاقات الشحن والاستقبال على مستوى مطار حمد الدولي وميناء حمد، مع توسيع طاقة استقبال ميناء الدوحة للسفن السياحية الضخمة التي بدأت حركة نشيطة انطلاقا من موسم الخريف الحالي باتجاه الدوحة.